الاثنين، 9 أغسطس 2010

النيل, وخيارات مصر الصعبة






بداية أعترف بأنني ربما أكون قد تأخرت قليلاً في مناقشة هذه القضية المصيرية ، والتي لا تطال مصر والسودان فقط بل دول المنطقة العربية بأسرها ، ولكن كان لتسارع الأحداث وكثرة الملفات المتعلقة بهذه القضية ، وكم المفاجآت التي يكشف عنها كل يوم ، دور في هذا التأخير ، فهي أمور تجعل من العسير علي واضعي الحلول و الاستراتيجيات الوصول لرؤية شاملة في كيفية التعامل مع قضية مياه نهر النيل ، والتي أصبحت خلال فترة وجيزة من أهم وأعقد قضايا الأمن القومي علي طاولة الحكومة المصرية ، بل إن هذه القصية قد وضعت سمعة ونفوذ ومكانة مصر الخارجية والإقليمية علي محك اختبار شديد الصعوبة ، أخشي أن تخرج منه بخسارة لا تدرك عواقبها ، ولا تحتمل تبعاتها .

القضية شديدة التعقيد ....لماذا ؟

هناك عدة أمور ساهمت في تعقيد هذه القضية المرشحة بقوة لئن تكون قضية الموسم منها :

تاريخية الاتفاقيات

الجدل الثائر حول توزيع عادل لمياه نهر النيل أشبه ما يكون بكرة الثلج المتدحرجة من أعلي التل وهي تزداد حجما وضخما كلما اقتربت من سطح الأرض ، فالقضية ليست وليدة الأيام الماضية فحسب ، فالجدل الدائر حولها منذ سنوات بعيدة ، واستدعي العديد من الاجتماعات والمؤتمرات علي مدار القرن المنصرم ، وتوزيع الحصص بين دول النهر ــ المنبع والمصب ــ جاء بناء علي محصلة تاريخية وهندسية وقانونية ودولية ، ليس من اتفاقية 1929 وحدها ، بل قبلها وبعدها من التفاهمات والاتفاقيات ابتداء من برتوكول روما 1891 ثم معاهدة أديس بابا 1902، معاهدة لندن 1902، معاهدة التفاهم بين انجلترا وإيطاليا وفرنسا 1906، تفاهمات إيطاليا وانجلترا 1925 ، معاهدة لندن 1929 ، مذكرات 1938 ، 1953 ، معاهدة مصر والسودان 1959 ،اتفاق أوغندا 1991،اتفاق أثيوبيا 1993 ، استقرت الحصص الموزعة علي إعطاء مصر 79% لمصر ذات الكثافة السكانية الضخمة ، ثم السودان 18% وهي ذات المساحة الأكبر إفريقيا وعربيا في القارة ، وال13% الباقية لدول المصب السبعة ( أثيوبيا ـ كينيا ـ رواندا ـ بوروندي ـ أوغندا ـ تنزانيا ــ الكونغو الديمقراطية ) وليس في هذا ظلم أو إجحاف كما تروج دول المصب ، لعدم حاجة هذه الدول الفعلية لمياه النهر للأمطار الاستوائية التي تتساقط طوال العام ، ولعدم وجود الدافع التنموي والاقتصادي الذي يستوعب المزيد من حصص المياه في هذه الدول ، ولكن مع تغير الأوضاع وتغلغل الصهاينة في العمق الاستراتيجي لمصر في إفريقيا بدأت المطالب تتزايد بخصوص تعديل حصص كل دولة ، والحجة أن الاتفاقيات قديمة وعفا عليها الدهر ، وكانت من صنع الاحتلال الانجليزي ، إلي آخر هذه المبررات التي تدور في الأساس علي عدم صلاحية الاتفاقيات القديمة .



التناول الإعلامي للأزمة :


 هذه ليست المرة الأولي التي يثور فيها الكلام عن قضية توزيع حصص مياه النيل ، فأثيوبيا منذ حقبة السبعينيات وهي تقود حملة مطالبة لإعادة توزيع مياه النهر بتحريض قوي من الصهاينة ، حتى أن الرئيس المصري الراحل أنور السادات هدد صراحة بشن حرب علي أثيوبيا إن هي أقدمت علي بناء سد علي بحيرة (تانا) كما كانت تنوي وذلك سنة 1979 ، ومضي قدما في التحضير لحرب خاطفة علي أثيوبيا ، واجتمع مع قادة جيشه للتشاور في خطة الحرب وكان لهذه الخطوات العملية والسريعة أثر في عدول أثيوبيا عن خططها .

 ولكن هذه المرة اختلفت صورة الحال ، بسبب التناول الإعلامي للقضية ، فالخطاب الإعلامي بخصوص هذه القضية أخذ أشكالا متنوعة في دول المصب والمنبع ، وأيضا في وسائل الإعلام العالمية بشكل ساهم بقوة في تعقيد القضية وتفاقمها ، ففي مصر مثلا أكبر المتضررين بهذه القضية اتسم الخطاب الإعلامي الرسمي بالثقة الزائدة التي تصل لحد الغرور والتعالي في التعامل مع القضية ، كأن الأمر قد حسم ولا مجال للتفاوض عليه ، ومارست وسائل الإعلام المصرية نوعا من التطمين الزائد للداخل المصري حيال هذه القضية ، وراح المسئولون يؤكدون علي ألا مساس بحصة مصر في مياه النيل ، وأن الاتفاقيات في صفنا ، ولا يجرؤ أحد من الدول الأفريقية (الصغيرة) علي العبث مع دولة بحجم مصر ، وأن العسكرية المصرية قادرة علي حسم الصراع في ساعات ، وهو الأمر الذي أغضب بشدة وسائل الإعلام الأفريقية التي اتهمت مصر بالعنجهية والغرور والتعالي في تعاملها مع القضية ، وأصبح الخطاب الإعلامي في هذه الدول خطابا تحريضيا سافرا يقوم علي العنصرية ومعاداة العرب والعروبة والإسلام أيضا ، فدخل البعد العقائدي مع العنصري ، وهو أسوأ خليط ينبني عليه صراع بين طرفين ، ولعل تصريحات رئيس الوزراء الأثيوبي ( زيناوي ) أمس خير دليل علي حجم الاحتقان والغضب داخل هذه الدول إذ شن هجوما سافرا علي القيادة المصرية ، ووصفها بأنها تسيطر عليها أفكار بالية عفا عليها الدهر ، وفي لهجة عدائية تحدي مصر أن يكون لها القدرة علي وقف بناء السدود ، كما أظهرت نتائج الاستطلاع التي عقدت داخل كينيا وأوغندا وتنزانيا ، أن غالبية شعوب هذه الدول تطالب ببيع مياه النيل لمصر والسودان ، مثلما يقوم العرب ببيع النفط الموجود في أراضيهم ، فالنفط هو الذهب الأسود ، والماء هو الذهب الأزرق ، وذلك نقلا عن صحيفة ( جيما تايمز )الأثيوبية في عددها الصادر بتاريخ 24 أبريل الماضي .

أما وسائل الإعلام العالمية فهي تنتهج خطا تحريضيا واضحا إزاء هذه القضية ، والتسريبات الإعلامية اليومية حيال هذه القضية تدور في معظمها علي فشل المفاوضات بين الجانبين ، والاستعدادات العسكرية المقبلة من جانب مصر والسودان ، والصحف العبرية كل يوم تسرب معلومات استخباراتية عن سيناريوهات الحرب المقبلة وتوقعاتها لشكل الهجوم المصري علي السدود الأثيوبية ، كما أخذت وسائل الإعلام الدولية في تأجيج العداوة الإفريقية للعرب والدول العربية وإثارة الحديث عن النعرات القبلية والصراع في السودان بين العرب والزنوج ، وكلها أمور تصب الزيت علي النار، حتى غدت المنطقة في أجواء حرب إقليمية شاملة .


الأصابع الصهيونية:

 لم يعد التعرف علي ملامح الدور الصهيوني في إشعال وتوتر الأوضاع في منطقة حوض النيل بالأمر الخفي الذي يحتاج إلي استنتاجات أو معلومات ، فهو من الوضوح بمكان أن يلحظه حتى رجل الشارع العادي الذي أصبح وعيه السياسي في الآونة الأخيرة أكثر نضوجا وتفتحا في عصر الفضائيات والسموات المفتوحة .

ولكن الذي قد يكون خافيا على كثير من الناس أن الأصابع الصهيونية تعبث بمنطقة شرق ووسط أفريقيا منذ أكثر من نصف قرن ، فمنذ أواسط الخمسينيات والصهاينة يتبعون سياسة خارجية ثابتة حيال تطويق العالم الإسلامي والمنطقة العربية تحديدا من أطرافه المحيطة الثلاثة غير العربية ، وكان الصهيوني بن جوريون أول رئيس وزراء للكيان الصهيوني هو أول من فكر في سياسة شد الأطراف من أجل تطويق المنطقة العربية والإسلامية سنة 1955 ، وكانت تلك السياسة تقوم في الأساس علي إقامة علاقات وثيقة ومتينة مع ثلاث دول هي أثيوبيا في الجنوب وإيران في الشرق وتركيا في الشمال ، وهي دول تنتمي لعرقية وقومية مختلفة عن العرب ( التركية والزنجية والفارسية) .

وقد نجحت تلك السياسة في تمكين إسرائيل من التغلغل في قلب إفريقيا وإقامة علاقات متباينة القوة مع معظم دول الداخل الإفريقي في الشرق والغرب والجنوب ، وذلك من أجل عزل الشمال الذي يوجد فيه العالم الإسلامي والعربي ، وركزت إسرائيل في علاقاتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية علي أثيوبيا التي تمثل رأس حربة العداء الديني والعرقي للعرب والمسلمين في إفريقيا كلها ، ومنذ أوائل الستينيات وآلاف الخبراء الصهاينة في شتى المجالات خاصة الزراعة والتسليح ، وتدفقت المساعدات الفنية والتقنية علي حكومة أديس بابا لمساعدة حكومة الطاغية الصليبي هيلاسيلاسي في حربه ضد الغالبية المسلمة في أثيوبيا .

الأصابع الصهيونية تبدو حاضرة بقوة في الأزمة الحالية فالدعم المادي والسياسي الإسرائيلي لدول المنبع كلها مكن هذه الدول الصغيرة تطالب بحصص متزايدة من نهر النيل ، ليس للمساعدة في النهوض والاستثمار كما تدعي ، بل لبيع هذه الحصص مرة آخري لمصر والسودان ، بحجة أن مصر والسودان يسرفان في استخدام الموارد المائية ، وكانت أوغندا قد طالبت المجتمع الدولي سنة 1996 بوقف إساءة مصر والسودان في استخدام مياه النيل ، والعجيب أن هذه المطالبات جاءت بعد فشل المفاوضات المصرية الإسرائيلية الخاصة بنقل 8مليارات متر مكعب من مياه النيل لإسرائيل عبر قناة خاصة في سيناء أطلق عليها اسم ترعة السلام .

 الأصابع الصهيونية تعمل بقوة علي تسخين الجبهات في دول المصب بإثارة النعرات القبلية واللعب علي أوتار الصراعات القومية العرقية في السودان والصومال وأريتريا ، ونبش التاريخ القديم للوجود المصري في دول حوض نهر النيل ، وإبراز التصريحات المصرية ووصفها بالعنجهية والاستعلاء ، مما زاد الوضع اشتعالا وسوءً ، ودول المنبع دول صغيرة فقيرة أنهكتها الحروب الداخلية والعرقيات المتصارعة ( الهوتو ــ التوتسي ) قليلة الخبرة في المجال السياسي ، لا تعرف ألاعيب إسرائيل ودسائسها ، فهي منقادة شعوبا حكومات خلف شياطين الإنس ــ الصهاينة ــ ويجهلون أنهم مجرد أداة في يد صانع القرار الصهيوني من أجل الضغط علي مصر واستلال المزيد من التنازلات منها ، وشغل العرب ودول المنطقة بأزمة النيل الخانقة لتتفرغ هي لاستكمال تهويد القدس بالكامل .



عداوة أثيوبيا التاريخية

أثيوبيا أو الحبشة كما ينبغي أن نسميها تحمل ذاكرة تاريخية مشحونة بالعداء والكراهية والحقد الشديد علي المسلمين عموما والعرب خصوصا ، فعلي الرغم من كونها ثاني بقعة علي وجه الأرض يصل إليها الإسلام ، إلا أن تاريخ العداء الحبشي يبدأ من يوم أن هاجر إليها الصحابة في العام الخامس من النبوة ، إذ كان دخول النجاشي زعيم الأحباش في الإسلام سبب لحقد وعداوة لا تنتهي من جانب الكنيسة الحبشية التي حرصت عبر الأجيال علي نقل ميراث الكراهية ضد الإسلام والمسلمين والعرب علي مر الأجيال .

 وأثيوبيا أو الحبشة لم تكن في حاجة لتحريض من أمريكا أو الصهاينة لمعاداة المسلمين والعرب ، فهي تسبقهم في هذا المضمار بقرون طويلة ، بل إن فكرة تهديد مصر بقطع مياه نهر النيل عنها ترجع إلي سنة 265 هجرية ، عندما استغاث مسلمو الحبشة بسلطان مصر أحمد بن طولون لنجدتهم من التنكيل والبطش الشديد من جانب إمبراطور الحبشة الصليبي ، و طلب بطريرك مصر من بطريرك الحبشة الكف عن أذي المسلمين بالحبشة ، فازداد الأحباش في تنكيلهم بالمسلمين وهدد الإمبراطور بقطع مياه نهر النيل إن فكر أحمد بن طولون في غزو الحبشة .

 أثيوبيا وعلى مر العصور هي تعادي العالم الإسلامي وتمارس أبشع أنواع التعذيب والتنكيل بمسلمي أثيوبيا الذين يمثلون أغلبية السكان ، بل إن تاريخ أثيوبيا الصليبي يفوق تاريخ الكثير من الدول العريقة في عداوتها للإسلام والمسلمين ، وظلت علي عداوتها حتى أيامنا الحالية ، وآخر تجسيد لهذه العداوة كان في أزمة النيل ، وأثيوبيا حاولت عدة مرات العبث بأمن مصر المائي ، هذا ما أحسن الصهاينة استغلاله ، فمولوا بناء السدود وأقاموا المشاريع الزراعية ، علي الرغم من عدم احتياج هذه الصناعات لمياه النيل لوفرة الأمطار الموسمية ،وارتفاع الأراضي الأثيوبية عن سطح الأرض بأكثر من ثلاثة آلاف متر ، ولكنه الحقد التاريخي الذي وجد من يموله ويسانده ويشد من أزره .



خيارات مصر الصعبة :

 الأزمة كما بينا شديدة التعقيد ، وتدخل الصهاينة زادها تعقيدا ووعورة ، وأصبحت خيارات الحكومة المصرية تجاه التعامل مع هذه الأزمة خيارات صعبة ، وقد شعرت دول المنبع بصعوبة موقف مصر ، فقالت وزيرة الري الأوغندية ( جنيفر نامويانجو) بكل ثقة في تصريح لها استبقت به زيارتها لمصر يوم الجمعة 21 مايو :( أن مصر ليس لديها أي خيار آخر سوي التوقيع علي الاتفاقية الجديدة ) ، وهو ما يخشاه الكثيرون من المحللين والمراقبين داخل مصر وخارجها ، حيث رأوا أن السياسية الخارجية المصرية القائمة علي الانكفاء علي الذات ، ورفع شعارات مصر أولاً ، ومصر للمصريين ، وغيرها من الشعارات التي كان الهدف منها تأمين الوضع الداخلي ، و تقلص الدور المصري في المنطقة العربية والإسلامية حتى اقتصر علي دور الوسيط في ملف المصالحة الفلسطينية ، كلها أمور أفقدت مصر قدرتها علي التأثير علي الدول الإفريقية ، وأفقدتها أدوات الضغط اللازمة لوقف التغلغل الصهيوني في أسفل العالم العربي والإسلامي ، وبالتالي أصبحت خيارات مصر صعبة ومحدودة للغاية .

 في حين يري الكثيرون من المحللين والمراقبين أيضا أن مصر لن تستطيع أن تخوض حربا مع دول حوض النهر لاعتبارات كثيرة سياسية واقتصادية وعسكرية وميدانية ، وأن أغلب الظن أن مصر سترضخ لمطالب دول الحوض في دفع ثمن مياه نهر النيل ، وهو ما سيتبعه من إجراءات داخلية مشددة من رفع ثمن مياه الشرب في المنازل ، ووقف بعض الزراعات التي تحتاج لمياه كثيرة مثل الأرز والاتجاه لاستيرادها بدلا من زرعها ، وقف بعض المشاريع التنموية في المناطق الجديدة ، إلي آخر هذه الإجراءات التي شبهها بعض المراقبين، بأنها مثل الوالد الذي ينهال علي أبناءه ضربا إذا اختلف مع جاره .

والواقع أن مصر بيدها العديد من الملفات والأوراق التي تستطيع أن تمارس بها ضغطاً موجعا علي دول الحوض ومحرضهم الصهاينة ، من أهمها ورقة المقاومة الفلسطينية ، والحدود مع غزة ، ودعم استقرار الأوضاع في الصومال ، و دعم المسلمين في أثيوبيا وتبني مطالبهم في المحافل الدولية والوقوف بجوار مجاهدي الأوجادين ، دعم دولة أريتريا كابوس أثيوبيا الأول ، وبناء علاقات قوية مع هذه الدولة الخطيرة ، وبالتالي يكون لمصر وجود في خاصرة أثيوبيا ، يسهل منه الانطلاق في عمليات حربية ، إن استدعي الأمر ذلك ، منع تصدير الغاز إلي الصهاينة ، وبصورة رسمية وقانونية بحكم من محكمة القضاء الإداري ، حقيقة بيد مصر الكثير من أوراق الضغط التي تستطيع أن تؤدب بها أثيوبيا وإسرائيل ، والباقي تبع لهما ، ولكن هذه الأوراق قرينة وجود الإرادة السياسية اللازمة لهذه الخطوات القوية ، لكن الاكتفاء بالمباحثات والمؤتمرات والزيارات الخارجية ، والمراهنة علي الاتفاقيات الدولية واحترام الغير لها ، فهذا حتما سيقود مصر لتوقيع المعاهدة الجديدة ودفع ثمن كوب الماء الذي سيشربه المصريون .

شريف عبد العزيز_ مفكرة الإسلام

ليست هناك تعليقات: